في رحلة تنشئة الطفل، قد تبدو الاحتياجات النفسية مثل الأمان، الحب، التقدير، الاستقلالية، والإنجاز، مجرد مفاهيم نظرية، لكنها في الواقع تمثّل الأساس الذي يُبنى عليه استقرار الإنسان النفسي وسلوكه في المستقبل.
ولكن، ماذا يحدث عندما يعاني أحد هذه الاحتياجات من نقص شديد أو إشباع مفرط؟
تخيّل أن كل احتياج من هذه الاحتياجات يُمثّل كوبًا زجاجيًا.
فهل من الأفضل أن نقدّم لطفل يعاني كوبًا فارغًا وهو في أشدّ حالات العطش؟ أم نملأ الكوب زيادة عن حاجته، رغم اكتفائه؟
في كلا الحالتين، النتيجة غير صحيّة.
لنأخذ مثالًا على ذلك: الاحتياج إلى الأمان.
إذا لم يحصل الطفل على الأمان مطلقًا، وبقي "كوب الأمان" فارغًا، فسوف يعاني من شعور دائم بالخوف والتهديد، ويقضي حياته باحثًا عن هذا الأمان المفقود.
لكن، ماذا لو تلقّى الطفل أمانًا مفرطًا؟
قد يبدو الأمر إيجابيًّا ظاهريًّا، لكنه في الحقيقة يحرمه من الاحتكاك بالحياة، ويضعه داخل فقاعة من الحماية الزائدة. وعند أول موقف غير متوقّع في العالم الخارجي، قد يتعرّض لصدمة نفسية حادة، لأنه لم يختبر الواقع من قبل.
وإذا انتقلنا إلى الاحتياج للاهتمام، سنجد نفس التحدّي.
الطفل الذي لم يتلقَّ اهتمامًا كافيًا، سيظل يبحث عنه في كل مكان، في سلوكياته، وعلاقاته، وربما حتى في تمرده.
أما الطفل الذي تلقّى اهتمامًا مفرطًا، فقد ترتفع توقعاته إلى مستويات غير واقعية، فيرى أن أي قدر طبيعي من الاهتمام لا يكفي، ويشعر بالإحباط من المعيار الذي اعتاده.
تخيّل شخصًا اعتاد أن يأكل خروفًا كاملًا يوميًا، ثم يُقدَّم له ربع خروف فقط، فيتفاجأ الجميع من كونه غير مشبع!
مع أن هذا الربع يكفي خمسة أشخاص، إلا أن توقعاته المرتفعة حرمته من الإحساس بالاكتفاء.
هنا، تتضح القاعدة الأساسية:
تلبية الاحتياجات النفسية ليست مجرّد فعل عفوي أو حسن نيّة، بل هي فنّ دقيق في إدارة التوازن.
فالحرمان يُنتج شخصًا هشًّا، قلقًا، ساعيًا باستمرار لملء النقص.
أما الإشباع المفرط، فيخلق فردًا متطلبًا، ضعيف التحمل، لا يرضى بأقل من الكمال.
الهدف ليس أن نملأ الأكواب حتى تفيض، ولا أن نتركها فارغة تنتظر.
بل أن نملأها بحكمة، وأن نمنح الطفل الفرصة ليختبر ويسعى ويسقط ويتعلّم، حتى يُصبح إنسانًا ناضجًا، يعرف كيف يطلب، ومتى يكتفي، وكيف يمنح نفسه ما يحتاج.
فالتوازن النفسي لا يكمن في الكمية... بل في الإدراك.